عن موقع المكلا اليوم 2010/1/14 د.عبدالقادر علي باعيسى ( لقد ذبحوني ) كان علي أحمد باكثير بصرخته الشهيرة تلك يعلن وصوله إلى وجوده الإنساني النادر، فكلماته تدفع به إلى الألم الشديد ككل العظماء، الألم هنا قيمة عليا متميزة ، وكلما ازداد عمق الكلمات ازداد الاغتراب والألم . ومأساة باكثير - لوحدثت - ستكون في عدم صراخه ، في عبوره صامتا كالعدم . صرخته اكتمال وفرح ، لا بالمعنى السطحي المباشر للفرح ، بل بالمعنى البعيد السحيق الذي تدركه عقول خاصة كاللهب .
بصرخته تلك تجاوز باكثير جانبه السياسي الحيواني ، وخلد للأبعد الإنساني غزالا نافرا ، يتدفق بالكلمات الوجود. فما الذي بقي من أولئك الذين ذبحوه ؟ وما الذي بقي منه ؟! ذهبوا يخشخشون في الموت كثمار العشرق البالية ، وما زال يتشكل في كل مرة من قراءته ، يمتلئ به الزمان ، وتصغي له الأحداق ، وتنساب إليه الأمكنة ، ويكسب كل يوم أصدقاء جددا ، يولدون في حروفه ويخفقون . وكلما ازداد انذباحا ، ازداد جمالا وتجددا. الذبحة مفيدة بلغة من يقرؤون الملكوت ، هي رمز الخلود ، كذبحة إسماعيل . وكل مؤلم ، موغل في إيلامه ، رمز على خطر الرسالة ، وجلال الطريق ، هكذا تعلمنا قصص الله : غربة يوسف ، واضمحلال أيوب ، وورطة يونس ، وطرد آدم ، وهجرة محمد ، ومحاولة إحراق إبراهيم . بصرخته الشهيرة ( لقد ذبحوني ) كان باكثير يكمل صنع الطريق بخطواته، كان يحيا في الوقت الذي ظن يموت ، ويزدهر في الوقت الذي ظن ينحسر ، ويأتي في الوقت الذي ظن يبتعد ، وذلك وجوده الحقيقي كوجود أي فنان عظيم عانى مرارة الذبحة نفسها ، واشتكى منها وبكى ، من امرئ القيس ، إلى طرفة بن العبد ، إلى أبي الطيب المتنبي ، إلى أبي العلاء المعري ، إلى بدر السياب ، إلى أمل دنقل ، إلى ناجي العلي ، إلى عبد الله البردوني ، إلى محمود درويش ، إلى يوم القيامة . وبصرخته تلك ، كان أعداؤه يصعدون في سقوطهم ، ويضيئون في خفوتهم ، ويزهرون في ذبولهم ، وذلك وجودهم الحقيقي كوجود أي أفاك عظيم ، عاش البهجة الخادعة ، بدءا من المحكوم بأمر السلطان ، إلى المحكوم بأمر البهتان ، والدنان . حرر نفسه من سلوكات الإنسان البليدة المحكومة برد الفعل .. طهر نفسه من آنية اللحظة ، ورغبتها السريعة ، وتعامل مع ما هو أسمى وأبر وأخلد . ( لقد ذبحوني ) شهادة حياة ووجود ، وشيء نادر أن تولد حياة العظماء من عذاب ، ووجودهم من تمزق ، شيء نادر أن يتخلق الإنسان من ضده ، فيمتلك البقاء وقوة المواجهة ، كأنه جزء من كينونة الحياة والقوة ، لذلك يعيش باكثير حيا وميتا . كان يدرك معنى التاريخ ، معنى النظافة فيه ، ومعنى المرض ، كان يقرأ حركته العميقة ، فما تخلفت كلماته عن ركب التاريخ العظيم ، ولا عن صرخاته الخالدة . امتلك قوة إرادته ، واكتنز بأمته ، وحاول وصل حاضرها بماضيها ، وسلك إلى ذلك طريق رواياته ومسرحياته ، وضحى كثيرا ، واتسعت خطواته ، واشتدت قبضته على أهدافه التي لم يحد عنها يوما ، على سماحة في قلبه ، وبساطة في سلوكه ، وهدوء في قسماته . كان أكثر من وجوده المألوف ، وكانت نفسه العظيمة تفتح له الأبعاد ، فيتخطى طلائع الزمن ، طالبا قلبه الفريد . كان يعرف الطريق ، وما بعد الطريق ، مؤمنا بالحياة الفعل ، وبالفعل الحياة . ولكنه كان يصرخ ، وهو ينجح ، ككل الأنبياء ، والشعراء . الصرخة هنا شهادة ميلاد بامتياز .. شهادة الوجود الحي .. كصرخة الوليد حين يستقبل الحياة . باكثير الصارخ يساوي الحياة ، يساوي الكتابة . صدره مساحة المجتمع ، ونبضه سرعة الوجود ، وتجربته حجم التاريخ . لماح كالإبداع ، قوي مثله ، تدعوك صرخته أن تصغي إليه ، كهدير نهر صامت ، يسهم في تركيب الحياة ، أو هو صورة من صور الحياة ، بل ترتبط الحياة بمصيره ، مثله لا تتحمله حياة المصالح العابرة ، تضيق عليه ، فيصرخ من ضيقها ، مجسدا نظرة أبعد منها ، أبعد من السطح الذي تنبت عليه الأشجار الكاذبة . أجمل حياته هناك ، قائما بين الأسرار والغيب ، صارخا ، ما أجمل تلك المسافة ، ما أحرها ، الحياة العظيمة لا يساويها غير الغياب عن الحياة الزيف ، عن الموت ، وكان ( الرجل الكثير ) يقصد إلى هناك ، إلى الصراخ ، يقصد إلى الغياب الحياة ، أو الغياب الوجود. وجوده حيث لا وجوده ، في صرخته ، حيث رحمه الأزلي ، وصورته الثاقبة تقرأ العلاقات ، وما تحت العلاقات ، وكلما اغترب اقترب . لم يكن باكثير غير راءٍ كبير للكلمات ، والناس ، والوطن ، والعروبة ، والإسلام ، والكون . وفي كل واحدة من هذه العلامات الضخمة ، سافر ورأى ، وفيها معا . وذلك وجوده العظيم ، دخولات لا تنتهي ، منذ أن كان طفلا حتى دخل في طفولته الجديدة ، وفي كل ذلك طهارة ونجاة ، وطريق عارية كالشمس ، وأبعاد حلال ، ومسافات من الجباه ، وما قبل العيون ، وداخلون غارقون . صرخة ، تأوي إليها الجنان ، ويسيل من أنينها المحار ، وتنبهر النجوم ، صرخة باكثير والكثير . صرخة التجربة وقد تعتقت ، والإبداع وقد رأى ، واللغة وقد انكتبت ، والفرادة وقد أشرقت . صرخة لا لغة بعدها ، ولا حديث ذو نفوذ . صرخة تنفي الضعف إلى أقصى حدود الحجر ، وتعيش حضورها في تفرده ، ولمعانها في تعتقه ، وتعد بخير عميم . صرخة البذرة والعشبة .. العشبة العالية في الارتقاء ، المباشرة لذات العلو ، الجارية فيها العيون ، والفراشات الصغيرة ، والأمهات ، وكائنات العطر ، ومهج الجمال ، والوجود .... . |