حنين
راندا محمد رأفت
أتجه إلى الطائرة، روحي تعود لي ، بعدما غابت عني سنوات ، أشعر بها تسري في عروقي ، أزيز الطائرة الصاعدة ، حركتها في السماء، تعيد التوازن المطلوب لروح تدب في جسد، تأتي المضيفة بارعة الجمال ، بزي أزرق بلون السماء التي أراها من النافذة الصغيرة تقدم طعام الإفطار ...
في نهاية الحصة الثالثة ، يدخل أحد المدرسين معه صندوقان ، الوجبة المدرسية التي توزع كل يوم ، بسكويت جميل الشكل جدا ، كفيل بأن يجعل الأطفال يقبلون عليه ، بل و يتشاجرون من أجله ... لم تدخل جوفنا أول قطعة ، كان من الضروري إستدعاء الإسعاف...
قلبي يخفق بشدة ، جدا، كخفقات لقاء الحبيب، عرفت أني في المجال الجوي لحبيبتي، تهبط الطائرة ، ببطئ ، تسير على الأرض ... تقف... تفتح الأبواب... يلفحني الهواء الذي اشتقت إليه دهرا؛ فيسكرني .. انزل .. اترنح من سكري... اخلع حذائي ، لم انتبه أن أحد يراني ، فيتهمني بالسوقية أو الجنون، ما أنتبه الإ أن أشبع شوق قدمي لهذا التبر...
نخرج من الفصل ، فارحين بما أتانا من وقت للعب ، اتفقنا على الأستغماية، جاء دوري لإغماء عيني ، أجري ورائهم ، و أمسكهم ، أصطدم بأشياء اتوقعها و لا اتوقعها ، اصطدم بأحد الأرصفة ؛ فسقط على الأرض ، كسرت ساقي...
أخيرا وقع بصري على وجوه قمحية ، علاقتي بهم لا تتعدى حدود الشعاع الذي يقع من عيني عليهم ، إلا أن روحي تخاطبهم ، أرواحهم تخاطبني ، منذ زمن لا تخاطبني روح ... ليس الخروج من المطار بالأمر الهين ، لابد من إجراءات لا يحتملها شوقي ، أن كانت لا تستغرق دقائق بذلك التوقيت البشري المفروض علىّ...
لابد أن أصل إلى عملي في الثامنة ، كما أصل كل يوم الثامنة إلا خمس دقائق ، بالمصعد الكهربائي لن يتكلف سوى دقيقتين للدور السابع ، حيث مكتبي الأجوف في الحجرة المتهدلة ، مفاجأة اليوم عامل المصعد الوحيد متغيب ، اضطر إلى الصعود بالسلم ، اجازي على تأخري ، الجميع لابد أن يتعودوا الصعود بسرعة ؛ لأن عامل المصعد الوحيد مريض ، و لا أحد يعلم متى سيشفى ؟ ربما شهر ، ربما سنة ، ربما يموت ...
الشمس ساطعة جدا ، سطوعها الصيفي على كل شيء ، يدفئ ما برد في كياني ، أشعر بعطش شديد ، رغم أن بحوزتي زجاجة مياه ، إلا أنها معدنية ؛ لا تغني عن عطش ، ما يروي الظمأ سوى النيل ، مهما أعلنت المنظمات الدولية كميات تلوثه ، أرى النيل ، يرتوي ظمأي ، أتمنى لو يتسع صدري ، لأضمه كله في أحضاني ، لكنه لا يتسع فليضمني هو ، ليس لدي أي مانع أن أموت فيه غرقا ...
اتفقنا أن نؤجر مركبا ، نهيم به على بساط النيل ، الهواء رائع ، يداعب خصلات شعري بأياد حريرية ، المياه دافئة ، حرارة شمس الظهيرة لم تتبدد منها بعد ،أنزل يدي إلى الماء، تنساب بين أصابعي ، سقط خاتمي...
تهفو نفسي إلى الفول و الطعمية ، حسبتها في أيام سالفة أحد رموز التخلف ، لكنها كل الحضارة .. تربت عليها الأجيال منذ الفرعون الأول ، و يخرجا خير أجناد الأرض ، في طريقي لبيتي لا أعجب من المتغيرات في كل شيء حتى عدد الأشجار ، لكن الناس لا يتغيرون....
دائما أعود إلى بيتي عصرا من نفس الطريق حتى حفظني طوب الأرض ، أواجه اليوم أناسا يتشاجرون ، ترهقني أصواتهم الحيوانية المنكرة ، أتردد في مواصلة السير ، لكنه الطريق الوحيد ، لا أستطيع الإنتظار ، فأنا مرهقة طوال النهار ، لا أعرف متى سينتهون ، أتقدم .. تبدا الرؤوس و الأيادي تتشابك .. أتقدم .. نالني مما ينالهم...
أدخل بيتي الذي اشتقت حتى لجدرانه ، أجدها تضمني معاتبة أحضان والديّ ؛ تزيل عناء ما ظننته يمحى أبدا ، اسمع زقزقة العصافير ، عرفت أن عصفورتي الخضراء ماتت عندما تركتها ، ينتابني أسى لموتها على كف غير كفي ، تتدحرج من عيني دموع تواسيني ...
ساهرة طوال الليل تبلغ درجة حرارتي مائة درجة ؛ بمقياس حرارة قلب أم يشتعل لمرض رضيعها ، تقاربت الحالة من التحسن ، تهدأ عيني ، فتغفو ، لم تمر دقيقتان ، افيق على صراخ ..... مستحيل أن تكون حياتي في دنيا رفضت حياة ابني...
انتهت أمي من إعداد الغداء ، تدعوني رائحته قبل أن تناديني ، أجفف دموعي؛ كي لا يرها أحد .. آكل كل ما يقدم لي ، ما كان يشبعني سوى طعام أمي ، الجميع يتجه للقيلولة ، أشتاق إلى هذا الذي كان لي مهدا ثم أصبح ملجأ لراحتي ، أسمع أصواتا متداخلة "طازج يالمون"، "الخمسة بجنيه يا جزر..." اشتقت لهولاء الجوالين أيضا ...
في الصباح مبكرا جدا عن موعدي ، أيقظني صوت بائع هرِم ينادي على بضاعته ، أخرج من نافذتي أنهره ؛ فيرد بتلقائية الذي يتوقع السؤال فجهز له الإجابة :"مش مهم الناس ؛ المهم اللي يسد الجوع.." و استمر ينادي ...
لا أعرف إن كان البائع الهرِم مازال حيا ، أتقلب في مهدي ، فرحتي بالرجوع تحرمني النوم ، أفتح المذياع ، مفاجأة ، صوت العندليب ، مفاجأة آخرى ، يغني من أجلي :"بالأحضان يا حبيبتي يا أمي ، يا بلادي...." |